فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وقوله: {قال فمن ربكما يا موسى} بعد جمعه مع هارون في الضمير، نداء بمعنى التخصيص والتوقيف إذ كان صاحب عظم الرسالة ولزيم الآيات.
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}.
استبد موسى صلى الله عليه وسلم من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا شرك لفرعون فيه لا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله: {الذي أعطى كل شيء خلقه} فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته أنثى {ثم هدى} للإيتان، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته، أي أكمل ذلك له وأتقنه {ثم هدى} أي يسر شيء لمنافعه ومرافقه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات، وقرأت فرقة {خلَقه} بفتح اللام ويكون المفعول الثاني ب {أعطى} مقدرًا تقديره كماله أو خلقته، وقال فرعون {فما بال القرون الأولى} يحتمل أن يريد محاجته بحسب ما تقدم من القول ومناقضته فيه، فليس يتجه على هذا أن يريد ما بال القرون الأولى ولم يوجد أمرك عندها، فرد موسى عليه السلام علم ذلك إلى الله تعالى، ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام الأول والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الناس روغانًا في الحجة وحيدة وقال البال الحال فكأنه سألهم عن حالهم كما جاء في الحديث {يهديكم الله ويصلح بالكم} وقال النفاش إنما قال فرعون {فما بال القرون الأولى} لما سمع مؤمن آله يا قوم {إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} [غافر: 30] {مثل دأب قوم نوح وعاد} الآية ورد موسى العلم إلى الله تعالى لأنه لم تأته التوراة بعد. وقوله: {في كتاب} يريد في اللوح المحفوظ أو فيما كتبه الملائكة من أحوال البشر. وقرأت فرقة {لا يَضِل} بفتح الياء وكسر الضاد واختلف في معنى هذه القراءة فقالت فرقة هو ابتداء الكلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله: {في كتاب} و{يضل} معناه ينتلف ويعمه، وقالت فرقة بل قوله: {لا يضل ربي ولا ينسى} من صفات الكتاب أي إن الكتاب لا يغيب عن الله تعالى، تقول العرب ضلني الشيء إذا لم أجده وأضللته أنا ومنه قول النبي صلى الله عليه حكاية عن الإسرائيلي الذي طلب أن يحرق بعد موته «لعلي أضل الله» الحديث، و{ينسى} أظهرها ما فيه أن يعود ضميره إلى الله تعالى ويحتمل أن يعود إلى الكتاب في بعض التأويلات يصفه بأنه {لا ينسى} أي لا يدع شيئًا، فالنسيان هنا استعارة كما قال في موضع آخر {إلا أحصاها} [الكهف: 49] فوصفه بالإحصاء من حيث حصرت فيه الحوادث.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}.
انظر إن هذه الأشياء التي ذكرها موسى عليه السلام هي مما تقضي بداية العقول أن فرعون وكل بشير بعيد منها لأنه لو قال هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالط فيقول أنا أفعل هذا كله فإنما أتاه موسى عليه السلام بصفات لا يمكنه أن يقول إن ذلك له وقرأ اين كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {مِهادًا} بكسر الميم وبألف، والمهاد قيل هو جمع مهد، وقيل اسم مفرد كفرش وفراش، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {جعل لكم الأرض مَهْدًا} بفتح الميم وسكون الهاء، وقوله: {سلك} بمعنى نهج ولحب، والسبل الطرق، وقوله: {فأخرجنا به} يحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله: {وأنزل من السماء ماء} ثم وصل الله تعالى كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد الخلق أجمع، فهذه الآيات المنبهة عيلها، والأزواج هنا بمعنى الأنواع، وقوله: {شتى} نعت للأزواج أي مختلفات، وقوله: {كلوا وارعوا} بمعنى هي صالحة لأن يؤكل منها وترعى الغنم فيها فأخرج العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال وأهدأها للنفوس، و{النهى} جمع نهية والنهية العقل الناهي عن القبائح، وقوله تعالى: {منها خلقناكم} يريد من الأرض، وهذا حيث خلق آدم من تراب. وقوله: {وفيها نعيدكم} يريد بالموت والدفن أو الفناء كيف كان وقوله: {ومنها نخرجكم} يريد بالبعث ليوم القيامة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قال فَمَنْ ربُّكما}.
في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره: فأتَياه فأَدَّيا الرسالة.
قال الزجاج: وإِنما لم يقل: فأتَياه، لأن في الكلام دليلًا على ذلك، لأن قوله: {فمن ربُّكما} يدل على أنهما أتياه وقالا له.
قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أعطى كُلَّ شيء صورته، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير.
والثاني: أعطى كل ذكر زوجَه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي، فيكون المعنى: أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله.
والثالث: أعطى كل شيء ما يُصْلِحه، قاله قتادة.
وفي قوله: {ثم هدى} ثلاثة أقوال:
أحدها: هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: هدى كل شيء إِلى معيشته، قاله مجاهد.
وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس، والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي: {أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ} بفتح اللام.
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلابد من خالقٍ وهادٍ.
قوله تعالى: {قال فما بال القرون الأولى} اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال: {عِلْمها عند ربِّي}، هذا مذهب مقاتل.
وقال غيره: أراد: إِنِّي رسول، وأخبار الأمم عِلْم غيب، فلا علم لي بالغيب.
والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟!
والثالث: أن مراده: ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال: عِلْمها عند الله، أي: عِلْم أعمالها.
وقيل: الهاء في {عِلْمُها} كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك.
وقوله: {في كتاب} أراد: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {لا يضلُّ ربِّي ولا يَنْسى} وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن: {لا يُضِلُّ} بضم الياء وكسر الضاد، أي: لا يضيِّعه.
وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: {لا يُضَل} بضم الياء وفتح الضاد.
وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى: لا يخطىء ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم.
وقيل: أراد: لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى.
قوله تعالى: {الذي جَعَل لكم الأرض مهادًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {مهادًا}.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {مهدًا} بغير ألف.
والمهاد: الفراش، والمهد: الفرش.
{وسلك لكم} أي: أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقًا تسلكونها، {وأنزل من السماء ماءً} يعني: المطر.
وهذا آخر الإِخبار عن موسى.
ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله: {فأخرجنا به} يعني: بالماء {أزواجًا من نبات شتّى} أي: أصنافًا مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج.
و{شتى} لا واحد له من لفظه.
{كُلُوا} أي: مما أخرجنا لكم من الثمار {وارعَوْا أنعامكم} يقال: رعى الماشية، يرعاها: إِذا سرَّحها في المرعى.
ومعنى هذا الأمر: التذكير بالنِّعم، {إِنَّ في ذلكَ لآياتٍ} أي: لَعِبَرًا في اختلاف الألوان والطعوم {لأولي النُّهى} قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إِنه لذو نُهْيَةٍ: إِذا كان ذا عقل.
قال الزجاج: واحد النُّهى: نُهْيَة، يقال: فلان ذو نُهْيَة، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن؛ قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النُّهية: الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضًا.
قوله تعالى: {منها خلقناكم} يعني: الأرض المذكورة في قوله: {جعل لكم الأرض مهادًا}.
والإِشارة بقوله: {خلقناكم} إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه.
{وفيها نُعِيدكم} بعد الموت {ومنها نُخْرِجكم تارة} أي: مَرَّة {أُخرى} بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولًا عند خلق آدم من الأرض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا موسى}.
ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي.
وقيل: خصّصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية.
وقيل: إنهما جميعًا بلّغا الرسالة وإن كان ساكتًا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأَيَّده.
فصار لنا في هذا البناء فائدة علمٍ؛ أن الاثنين إذا قُلِّدا أمرًا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قُلِّدا وقاما به واستوجبا الثواب، لأن الله تعالى قال: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} وقال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} وقال: {فَقُولاَ لَهُ} فأمرهما جميعًا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا} أنه كان حاضرًا مع موسى.
{قَالَ} موسى: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} أي أنه يُعرَف بصفاته، وليس له اسم عَلَم حتى يقال فلان، بل هو خالق العالم، وهو الذي خصّ كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا.
{وخَلْقَهُ} أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي.
{ثُمَّ هدى} قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه.
وعن ابن عباس: ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهَداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديرًا.
وقال الشاعر:
وله في كلِّ شيءٍ خِلْقَةٌ ** وكذاك الله ما شاء فعلْ

يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقاتل.
وقال الضحاك: أعطى كل شيء خلْقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له.
يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع.
وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة.
وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث، ثم هدى الذكر للأنثى.
فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.
قلت: وهذا معنى قول ابن عباس.
والآية بعمومها تتناول جميع الأقوال.
وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الَّذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ} بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن أبي إسحاق ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه.
فالقراءتان متفقتان في المعنى.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ} البال الحال؛ أي ما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك؛ لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ.
وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك.
أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك.
وقيل: إنما سأله عن أعمال القرون الأولى، فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب.
أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدًا بها وعليها.
وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.
الثانية: هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكَتْبها لئلا تُنْسى.
فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنّسيان.
وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه.
وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}.